رقيم ودهاق أوطاننا العربية (2-3).. عبر تخالس قاطرة التمفصلات لأعقاب السمر النوبية تضتج أصماخنا بركحويات لاتعترف بغير التصوحات السودانية
تاريخكم الكوشي, معبدكم الآموني, لغة لن يفهمها غير من نبت بنبة ومر بمروي. يا سمر الجباه تعليتم «جبال التاكا» فنبتت على آثار أعقابكم الحضارات العربية بعد أن تسنمتم مجدًا لا يطوله سوى جدكم البعيد الشديد الزول «بعانخي». يا أحفاد الزول الأجمل الأطول موروثكم الشعبي ارتكز على صخرة الطقوس الاجتماعية الخاصة, والعادات والتقاليد والنهج الصوفي, وما تختزنه الذاكرة الشعبية المتوارثة من القصص الأسطورية لمجتمع ريفي وبدوي يتسربل ثوب الحداثة، ويحث الخطى نحو المدينة ببطء, فنهضت من أروقة كلية غردون التذكارية على أكتاف أفنديتكم وملكة داركم. ما أبلغ ناقدكم يوم قال: «يا شعراء السودان اصدقوا وكفى», وما أبزكم في أفلاك النقد وأيم الله لكم القدح المعلى. لأجل داركم قامت الطبقة المسحوقة تشعر, تقص, وتروي, حكايات ضد الاستعمار. سحقًا لمن لا يبسل في مناورة الأشرار.
قالوا أيها الأعرابي سنستهل الحديث في رقيمك بعدد من الشخصيات السودانية ثم سنذكُر في دهقك مآثر نقادنا, وما تجدول عبر أخاصيبه من مدائن أقصصية ذات خلب وأسروية, وما تأزه رياح التموسم كلما رعشت رياح «طيبنا الصالح» تحت سنابك الهجرة ولفيحها الموءور المحشرج «موسم الهجرة إلى الشمال».
شخصيات تنوعت سحناتها
أستاذ الإعلام بجامعة الملك خالد البروفيسور عوض إبراهيم عوض تطرق في أول محاور الجزء الثاني لعدد من الشخصيات الذين بقدرتهم الإبداعية الخلاقة أوجدوا مساحات رحبة من عطاءات التنوير في بلادهم فقال: عندما أمسكت بالقلم لأكتب عن بعض الشخصيات وجدت كل الإحساس منصباً على أربعة أسماء هي «عبد الرحمن المهدي والشيخ الطيب السراج والفريق إبراهيم عبود والفاتح بشارة». هذه الشخصيات تنوعت سحناتها وسماتها بين القيادة الوطنية، والأدب، والعسكرية، والدبلوماسية. ولعل أقدمهم من الناحية التاريخية «عبدالرحمن المهدي» الذي أسهم بفكره في نهضة السودان الحديث من زوايا التعليم والفكر والثقافة والأدب والفنون والسياسة. دخل «المهدي» التاريخ من أوسع أبوابه من خلال غيرته الوطنية. ولعل دأبه الشديد على تطوير أهل بلاده قد قاده لتحميس الشيخ بابكر بدري ومؤازرته في إنشاء أول تعليم نظامي للبنات من خلال مدارس الأحفاد التي تطورت لتصبح جامعة الأحفاد للبنات كأول جامعة وطنية بعد كلية غردون التذكارية. أما الشخصية الثانية فهو الشيخ «الطيب السراج» أحد علماء السودان. كان فيلسوفاً وعالماً وفقيهاً بعلوم اللغة، كما كان شاعراً ومترجماً, وهو أول سوداني نال عضوية مجمع اللغة العربية بمصر. اختارته الإدارة البريطانية كاتباً في دواوينها. للسراج تأثير في وجدان السودانيين, ومن ذلك أنه أنشأ صالوناً أدبياً في بيته يلتئم فيه شمل العلماء والأدباء والمفكرين. فتمت ولادة عشرات المؤلفات والدواوين والكتابات التي كانت تناقش في الصالون. عينه «المهدي» رئيساً للجنة من العلماء لمراجعة وترتيب وثائق المهدية بعد أن تسلمتها أسرة المهدي من أيدي البريطانيين الذين غادروا بإعلان الاستقلال.
وثالث الشخصيات الزعيم «إبراهيم عبود» الذي قاد نهضة عمرانية وصناعية كبيرة خلال توليه زمام القيادة في الدولة, ساعده في ذلك أنه كان قوياً وجاداً ودقيقاً في مواعيده. ومن تلك الدقة أنه كان يأمر بإغلاق الأبواب عند العاشرة صباحاً في اجتماعات مجلس الوزراء فلا يدخل أحد بعد ذلك. ولشغفه بالأخبار كان يستيقظ في الرابعة صباحاً ليتابع الإذاعات العالمية, وهو أحد المهندسين الذين شيدوا مباني وزارة المالية، والهيئة القضائية، ووزارة الزراعة. ونختم برابع شخصيات هذا السر الذي أطوف به وهو «الفاتح بشارة»: كان من أقرب الناس للفريق «عبود» عمل عندما كان نقيبًا بالقوات المسلحة سكرتيرًا لديه، ثم تبوأ منصب سفير السودان في السعودية, بعد أن تقاعد من الجيش. ولما كان الملك خالد بن عبد العزيز – رحمه الله – قد عُرف بحبه الشديد لأهل السودان فقد خلق معه الفاتح صداقة متينة، ساعدته على تمتين علاقة الشعبين التي شهدت قمة التطور والازدهار في تلك الفترة (1976 – 1980م). ومن نتائجها أن قام الملك بزيارة مطولة للسودان, كذلك نجح في تمتين علاقة السودان بمنظمة المؤتمر الإسلامي التي اختارته فيما بعد رئيساً لوفد السودان بلجنةِ القدس. استطاع أن يترجم من خلال هذه المناصب شعار الدبلوماسية في خدمة التنمية، فجلب العديد من المشاريع والمنح للسودان. كما استطاع أن يوقع بروتوكولاً ثقافياً مع السعودية، أقنع من خلاله الأشقاء بالمملكة بقبول المئات من الطلبة السودانيين بالجامعات السعودية، فأصبحت السعودية البلد الثاني من حيث أعداد الطلاب.
واختتم «عوض»: بعد ذلك أصبح الفاتح بشارة حاكماً لإقليم كردفان؛ فجمع خيار المثقفين حوله وطور التعليم والاقتصاد، ووضع اللبنات لإنشاء جامعة كردفان وإذاعة كردفان وكَوَّنَ لجنة لدراسة الآثار المترتبة على اكتشاف البترول.
النقد الأدبي السوداني
بين الرواد والحداثيين
أوضح الناقد الدكتور مصطفى محمد الصاوي أن فجر الحركة النقدية في السودان شهدتها فترة عشرينيات القرن الماضي. يتجلى ذلك بإرهاصات لتوجه نقدي كلاسيكي يتكئ على أسس معرفية ذات علاقة بالنقد اللغوي الذي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالنقد العربي القديم في مظانه الحقيقية كخيار نقدي ينادي بصحة العبارات، وجزالة الألفاظ، والالتزام بعمود الشعر. وتكرّست مضامين هذه البدايات بالمعهد العلمي بأم درمان وحلقات الدراسة بالمساجد، ثم امتدت هذه الحركة النقدية الوليدة وازداد نشاطها بعد ذلك في سني الثلاثينيات بظهور مجلتي «الفجر والنهضة» بعد تخرج العديد من طلبة «كلية غردون» الذين تأثروا بالمناهج الغربية، ثم تعرفوا على الحركة النقدية بمصر ولبنان, فاشتد الصراع بينهم وبين الشيوخ، وبدأت معالم حركة نقدية تجاوزت النقد العربي القديم بالتحديد في مجلة الفجر، التي دعا صاحب امتيازها إلى الاستعانة بالآداب الأجنبية لإثراء التراث العربي القديم وبعثه من جديد.
مضيفًا بأن جماعة الفجر «أثرت إلى حد بعيد الحياة الأدبية في السودان، وأوجدت مدرسة في الأدب والنقد لها طابعها الخاص». وبين أن من أبرز أعلام تلك الحقبة «محمد محجوب» الذي قام بتوجيه نقدي حينما حث الأدباء على التمتع بالبصيرة النافذة، والمُلاحظة القوية، كما تضمن النقد لديه التنظير النقدي والتوجيه النقدي والنقد التطبيقي والنقد الثقافي «دعوته إلى الأدب القومي». أما «معاوية محمد» فقد ارتبط بالحركة النقدية الرومانتيكية باعتباره واحداً من أولئك النقاد الذين تبنوا ملامح النقد الغربي في مظانه الحقيقية الذي أنتج في إنجلترا وألمانيا وفرنسا. وله إسهامات متعددة، منها مقالاته عن الأدب الألماني، ونقده لمسرحيات أحمد شوقي، ومقالاته عن سرقات المازني, كما أسهم في نقد القصة القصيرة في مقاله «أصول الفن القصصي». ولا يختلف عنه الناقد «الأمين مدني» صاحب كتاب «أعراس ومآتم» الذي استند في نقده إلى مقولات نقدية رومانتيكية ووجدانية متأثرة بالنقد المهجري اللبناني ضمن كتابه كيف نفهم الشعر.. مهاجمة الشعر التقليدي. كما لا يمكن تجاوز فجر النقد بالسودان دون الإشارة للكتابات النقدية للشاعر التيجاني يوسف بشير صاحب ديوان إشراقة.
يا شعراء السودان اصدقوا وكفى!
وتابع «الصاوي» ومن الرواد الذين أثروا في الحركة النقدية بالسودان «حمزة الملك» صاحب كتاب «الأدب السوداني وما ينبغي أن يكون عليه» الذي تمثلت توجهاته النقدية حول دور النقد في توجيه مسارات الأدب، ورسم معالمه, ورفض التقليد، والمحاكاة.. عرف بدعوته الشهيرة «يا شعراء السودان اصدقوا وكفى».
وفي فترة الخمسينيات قُدمت إسهامات نقدية مختلفة، منها الذي يحمل الطابع الصحفي، ومنها الأكاديمي. ففي الأولى أسهم حسن نجيلة الكاتب والصحفي الفذ بكتابات مهدت للدراسات النقدية الأكاديمية كإشاراته لفن الحقيبة، وتعريفه بالشاعر خليل فرح. وفي الثانية نشير لما رفدت به الحركة النقدية في السودان أواخر الخمسينيات لمنتصف الستينيات من وجود أكاديميين من مصر وفلسطين درّسُوا في الجامعات السودانية، وأسهموا في البحث والتنقيب في شتى مجالات الأدب، منهم عز الدين إسماعيل الذي كتب عن القصص الشعبي، ورصد بنية الحكاية، وكتب عن الشعر القومي السوداني.
النقد البنيوي للسرديات
وقال «الصاوي»: ولكي نصل إلى ما يمكن تسميته «النقد المعاصر في السودان» المتمثل في التيار البنيوي وما بعده لا بد من الإشارة لدور مجلة فصول المصرية التي كان لها القدح المعلى بهذا التيار في ستينيات القرن الماضي. ومن أبرز الإسهامات المتأثرة بالنقد البنيوي ما جاء به يوسف نور في كتابه الموسوم بـ»الطيب صالح في منظور النقد البنيوي»، وكذلك كل من أسامة الخواض، ومحمد خلف الله، ومعاوية البلال.. وكاتب هذه السطور؛ إذ قدم النقد البنيوي في السودان إسهامات متميزة في معرفة الأدب السوداني وقراءة نصوصه، وكان أكثر استيعاباً للمفاهيم الإنتاجية النصية، وأثبت كفاءة في مجال السرديات.
القصة.. النشأة والتطور والسمات
إن التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الجسيمة التي عاشها السودان عقب نهاية حقبة المهدية ودخول البلاد في قبضة الاستعمار البريطاني لعبت دور اللاعب الأساسي في مسرح القصة القصيرة السودانية. القاص «جمال الدين الحاج» أكد أن التمازج الجيني بين الدّمين الأفريقي والعربي، والتأثير الكبير للموروث الشعبي المرتكز على صخرة الطقوس الاجتماعية الخاصة والعادات والتقاليد والنهج الصوفي وما تختزنه الذاكرة الشعبية المتوارثة من القصص الأسطورية لمجتمع ريفي رعوي زراعي، يتسربل ثوب الحداثة، ويمشي ببطء، ولكن بلهفة نحو المدينة، ويرنو بشغف لكل ما هو جديد وحديث قادم مع خيول الإنجليز المسرجة، أو محمولاً على قطاراتها وسككها الحديدية التي شقت جسد السودان البلد القارة إلى نصفين؛ لتعيد حياكته من جديد بخيوط إنجليزية حديثة، لعبت أيضًا دورًا كبيرًا في اتجاهات الحركة القصصية. كاشفًا النقاب عن أن القصة السودانية نهضت على أكتاف الجيل الذي تعلم في المدارس الحكومية التي أنشأها الإنجليز ومجلتَي «النهضة والفجر».
وأضاف: إنه في الثلاثينيات برز اسم الناقد والقاص معاوية محمد بوصفه أول سوداني كتب القصة القصيرة بشروطها المعروفة. وإن ما سبقه كان يندرج تحت اسم الحكواتي كموروث شعبي. فاهتمت القصة القصيرة بالواقعية في تلك الفترة، واتسمت أعمال الرواد بتصوير شخصيات واقعية وحية، كما برزت القصة الاجتماعية والأدب الذي يعنى بهموم المجتمع؛ فظهرت أسماء عبد الحليم محمد ومحمد الفيل ومحمد عشري من جيل الرواد الذين وضعوا اللبنة الأولى للقصة السودانية بسماتها وهويتها.
طبقة الخريجين الأفندية
وتابع: وفي تلك الفترة نهض الشعر الفصيح كداعم قوي للقصة، صاحبه ظهور غناء ما يعرف بـ «الحقيبة» الذي كان في أوجه, وبدأت تتشكل طبقة جديدة بالمجتمع بعد تخرج الطلاب السودانيين من كلية غردون التذكارية «جامعة الخرطوم لاحقًا»؛ فتشكل جيل من الخريجين وطبقة الأفندية اللذين شكّلا النخب السودانية المصاحبة لظهور الشعر الحديث والغناء الوتري الحديث والإذاعة والسينما والمسرح. وأشار «الحاج» إلى أن الثيمة الأساسية في قصص تلك الفترة هي الزواج والحب والعلاقات العاطفية والنزوح من الريف إلى المدينة وتحضر المجتمع القروي والسفر والأسطورة والتراث. كما بدأت تتشكل بذرة توعوية ضد المستعمر.
الواقعية اهتمت بالطبقات المسحوقة
كما أدى ظهور المدارس الفكرية أو ما يسمى بالواقعية الاشتراكية مع نهوض الاتحاد السوفييتي وانتشار الفكر الماركسي والأدب الروسي. وأدى هذا لتشكل تطور نوعي وقفزة كبيرة في القصة؛ فاهتم كتاب هذا الجيل بالطبقة المسحوقة، ومناهضة الاستعمار؛ فبرز من هذا الجيل خليل علي وأبو بكر خالد وعثمان علي الذي أصدر مجلة القصة بوصفها أول مجلة متخصصة تعنى بفن القصة, وهو أول من أصدر مجموعة قصصية كاملة «غادة القرية» عام 1954م. كما كان لعودة مجموعات كبيرة من الطلاب الدارسين في الغرب المحملين بقِرَب ملآنة بوقود الثقافة والفنون وما جادت به الحضارة الغربية الأثر الفعال في إذكاء جذوة الفنون والآداب والسرد على وجه الخصوص، وبرزت أيضًا أسماء كبيرة ولامعة، شكلت وجدان الشعب السوداني والعربي شعرًا ونثرًا وسردًا، كصلاح أحمد وبروف المك وإبراهيم الشوش والطيب صالح.. فيما برز من كتاب الجنوب أسماء جاكوب أكول وفرانسيس دينق.
ملكة الدار تشرئب زمرة الحوائيات
وقال «الحاج»: بعد ظهور الكتابات الوجودية لأول مرة كابن شرعي للانفتاح على الغرب برزت الأديبة السودانية ملكة الدار بوصفها أول قاصة وروائية فتحت الباب على مصراعيه للمرأة السودانية؛ فولجت حواء السودانية، وتربعت على عرش القصة والرواية والشعر أديبات سمراوات باذخات اللغة كآمنة محمد وسعاد الفاتح وسلمى الشيخ..
وأضاف: وبعد أن تبلورت سمات القصة السودانية الحديثة التي ابتدأها الجيل السابق استلهمت هذه المجموعة قصصها من التاريخ و»الفنتازيا» التي سوف تشكل ثيمة ثابتة لكل الأجيال مع الأسطورة والتراث الصوفي، وكذلك الحكمة والسخرية من الوضع القائم ومن الذات والاستفادة من علم النفس؛ فكانت اللغة المستخدمة مزواجة بين الشعرية والإدهاش البصري والسخرية، وبرز من جيل السبعينيات والثمانينيات بشرى الفاضل ونبيل غالي, وفي الثمانينيات حتى نهاية الألفية ظهر جيل الانفتاح الكبير على العالم الخارجي الذي به توطدت اللغة الشاعرية، وظهرت عبارات جديدة وقضايا جديدة في القصة كالهجرة والنزوح والحرب والسلام والسلم الاجتماعي وقضايا التهميش، إضافة للموروث الجيني للقصة السودانية والتراث وغياب الفرص وجفافها؛ فلمع كتاب آخرون قدموا إسهاماتهم بطرائق عدة، مثل أمير تاج السر وطارق الطيب، ومن الجنوب ميك كلينسون وأغنيسلاكدودو اللذان كتبا القصة باللغة الإنجليزية.
وبعد التحولات الجسيمة في العالم، وانتهاء الحرب الباردة، وظهور القطب الواحد، ودخول الصراع في الشرق الأوسط لمراحل الصدام، ليس مع العدو إنما ضد الصديق، وظهور نظرية صراع الحضارات وغيرها من التحولات الكونية الدراماتيكية الكبيرة في المشهد العالمي، أضف إلى ذلك الثورة «التكنولوجية» التي اجتاحت العالم.. أدى كل ذلك للتأثير الكبير على كتابات القاصين في جيل شاب، يتلمس الخطى, إضافة لظهور الجوائز السنوية المقدمة للأدب كجائزتي الطيب صالح للإبداع الروائي والإبداع الكتابي، وجوائز عربية وإقليمية ودولية (الشيخ زايد, الشارقة, كتارا, البوكر, نجيب محفوظ) من الجوائز في الوطن العربي والعالم؛ فساهم هذا الزخم الكبير في بروز أسماء شابة، إضافة للأسماء المعروفة من الأجيال السابقة؛ إذ لمعت أسماء بركة ساكن وحمور زيادة وسارة الجاك واستيلاقايتانو «من الجنوب».
بصدر هذا الشعب قصص لم تُروَ
واختتم «الحاج»: برغم الإشكالات والصعوبات المتمثلة في صعوبة النشر والتوزيع لكتاب غير متفرغين أصلاً لموضوع الكتابة، وغياب الخطط المنوط بها النهوض بالأدب والثقافة، والدور الخجول الذي تلعبه المؤسسات والشركات والهيئات الخاصة.. إلا أن القصة السودانية تضع زينتها لتخرج على الملأ في ثوب قشيب كما العروس. طالما أن هناك نيلاً يجري متدفقًا بالخير ولا يبالي بشيء، وشمسًا تشرق وتغيب، وتنشر نورها بسخاء شمالًا وجنوبًا وشرقًا وغربًا، وقمرًا منيرًا يضئ سماوات السودان في الليالي القمرية، وجبالاً راكزات، ورياحًا وغيمًا وأرضًا وسماء وشعبًا أسمر متفردًا متنوع الثقافات واللغات واللهجات والسّحنات والديانات.. طالما أن الله موجود ويحرس هذا الشعب, فإن هناك قصصًا كثيرة بصدر هذا الشعب لم تُروَ. انتظروهم، إن أحفاد الطيب صالح قادمون.
«تاجوج» إشكالات الرواية
تبدو الإحاطة بالمشهد الروائي السوداني أمرًا صعبًا وبالغ التعقيد؛ وذلك لسببين منطقيين – كما يصف الناقد أحمد عوض خضر -: الأول هو إشكالات النشر المعقدة في السودان المتمثلة في عدم تمكُّن الروائيين من طباعة أعمالهم بسبب الإمكانيات المادية، ولغياب الجهات المختصة عن تحمل مسؤولياتها تجاه النشر. والسبب الثاني يعود لإشكالات النشر الأكثر تعقيدًا خارج السودان، التي تكون مسألة التوزيع فيها هي المعوق الرئيس في عدم قراءة الروايات للكتاب السودانيين التي تصدر خارجه بسبب عدم حرص بعض دور النشر الخارجية على التوزيع في السودان؛ وبالتالي تضيع على الكتّاب فرصة قراءة أعمالهم. فرواية «إنّهم بشر» للرائد خليل الحاج الرواية السادسة في تاريخ الروايات السودانية، باعتبار تاريخ صدورها عام 1960م، لكن هذه الرواية كُتبت وأنجزت بالأصل عام 1954م. ورواية «هائم على الأرض أو رسائل الحرمان» لبدوي عبدالقادر الصادرة عام 1954م, ما لم تكن الأخيرة أيضًا قد كتبت قبل ذلك بسنوات.
وأوضح «خضر»: يُرجِّح بعض الباحثين في تاريخ الأدب السوداني أن تكون أول رواية سودانية هي «تاجوج» لعثمان هاشم، التي يؤرخ لها عام 1948م, بينما كُتبت قبل ذلك بسنوات. أيضًا روايات «الفراغ العريض» لملكة الدار تصنف من بواكير الإنتاج الروائي السوداني. ووصفت هذه الروايات بميلها للرومانسية العالية، واشتغالها على هموم الانتقال من القرية إلى المدينة، واهتمامها بقضايا الريف وتحفظه، وتصوير المدينة كغول أو شيطان. وبالنظر إليها مقارنة مع رواية «موسم الهجرة للشمال» للطيب صالح، التي صدرت عام 1966م, نلاحظ التقارب في تاريخ الصدور لتلك الروايات ما بين (1954 و1966 م), وهو عقد من الزمان؛ إذ تناولت «موسم الهجرة للشمال» صراع الحضارة بين الغرب والشرق، وتبنت خطابًا ما بعد «كلونياليا»؛ ما جعلها أكثر نضجًا من الروايات التي صدرت معها في العقد نفسه؛ وهذا يجعل وضع هذه الروايات في سياقها التاريخي والمجتمعي وهموم اشتغالاتها، أو إعداد «بيبلوغرافيا» دقيقة ترصد الرواية السودانية عبر تاريخها، أمرًا صعبًا.
فطن السودانيون لها مؤخرًا
أضف إلى ذلك أن العديد من الروايات السودانية الرائدة التي صدرت في الخمسينيات والستينيات تعد بحكم غير الموجودة؛ ومن الصعب الحصول عليها، فنسخها غير متوافرة بدار الوثائق السودانية والمكتبات العامة بسبب عدم إيداعها من قِبل أصحابها؛ ويرجع ذلك إلى أن علم المكتبات والتوثيق يعتبر من العلوم الحديثة التي فطن لها السودانيون مؤخرًا، بل إنّ حتى متابعة الروايات السودانية الحديثة تُعد أمرًا شاقًا ومكلفًا للباحث؛ فما من مكتبة عامة تجمع هذه الروايات، وخصوصًا أن المكتبة الوطنية بالخرطوم تعد حتى الآن مشروعًا تحت الإنشاء.
الطيب صالح فتح روائي عالمي
واستدرك «خضر»: لكن من مجمل ما صدر من الرواية السودانية نلاحظ الإشغالات المختلفة والاهتمام بعكس التراث الشعبي السوداني، وتوظيفه، والاستناد إلى الحكاية الشعبية المتواترة. كما عكست الرواية البيئة السودانية بمختلف تنوعاتها من قبائل ومجتمعات وإنسان وقيم وعادات وتقاليد؛ إذ شهدت الستينيات قفزة نوعية كبرى في الرواية السودانية؛ ففضلاً عن ظهور عدد واسع من الروايات السودانية من كتاب مختلفين لكن يبقى الفتح الروائي الكبير الذي قاده الطيب صالح برواياته؛ فقفز بالرواية السودانية قفزة كبرى، احتل على إثرها الطيب (1928 – 2009م) مكانه بوصفه واحدًا من أفضل الروائيين في العالم العربي والعالم.
أيضًا برزت أسماء روائية مثل السر حسن فضل في روايته «من أجل ليلى»، وأمين محمد «لقاء عند الغروب»، ومحمد مختار في «سخرية الأقدار»، وعبدالفتاح خضر في «صراع»، وحسن أمين في «دغدغة الأمل».. فظل التيار الرومانسي بكل قصصه العاطفية الفاجعة سائدًا عند أولئك الكُتّاب ابتداء من العنوان حتى آخر كلمة في الرواية، ولم يختلف منه سوى إبراهيم إسحق في روايته «حدث في القرية»، والطيب صالح في مجمل أعماله، وأبي بكر خالد في «النبع المر»، وعدد قليل من الروائيين.
أما حقبة السبعينيات فقد شهدت بروز عدد من الأسماء، ابتداء من الطيب صالح الذي واصل مشروعه الروائي «ضو البيت» و»مريود»، ثم إبراهيم إسحق «أعمال الليل والبلدة»، وأبي بكر خالد «القفز فوق حائط قصير». وتراجع التيار الرومانسي الذي ظل يمارس سطوته على عدد من الروايات الستينية، وأضحت الواقعية بتياراتها العديدة: «الواقعية الاجتماعية، الواقعية الفنية، الواقعية النقدية…» هي سيدة الموقف. كما يمكن أن نرصد في هذا العهد الانتباه العميق لخصوصية فن الرواية؛ فلم تعد كما كان عدد من الستينيين عرضًا صريحًا فجًّا لآلام الذات وآمالها، وتعليقًا عاطفيًّا على أحداث الحياة، كما خفت الروح الخطابية والوعظية، وخفت تأوهات الذات وصراخها.
وفي الثمانينيات برز جيل جديد، إضافة إلى الذين واصلوا كتابة الرواية من الأجيال السابقة؛ فبرز روائيون أمثال إبراهيم بشير في «زندية»، وبابكر ديومة في «الخرطوم وداعًا»، وبشرى هباني في «مسرة». ثم جاءت التسعينيات وما بعدها، فبالإضافة إلى إبراهيم إسحق الذي واصل فتوحاته الروائية، برز عدد كبير من الأسماء الجديدة، أهمها محمد البكري، أحمد الملك، أبكر آدم، ليلى أبوالعلا.. وحدث في هذا الجيل تحوّل نوعي في استخدام تقنيات الرواية؛ إذ انفتحت الرواية السودانية على الرواية العالمية، ولاسيما الرواية القادمة من أمريكا اللاتينية على يد غارثيا ماركيز، وجورج أمادو، وإيزابيل أليندي وغيرهم.
واختتم «خضر»: إن من أهم السمات البنائية والدلالية في الرواية السودانية في هذا العهد هو النقد الحاد للواقع وما ساد فيه من قيم اجتماعية، وتشريح البنية السياسية والاقتصادية للمجتمع, وبناء الواقع الروائي على الحلم والمخيلة والواقعية السحرية ومزج السيرة الذاتية بالرواية. أيضًا هناك اللجوء إلى التاريخ كاستعارة كبرى، يستطيع الروائي من خلالها أن يفجّر أسئلة المشهد الراهن دون الوقوع في شرك المباشرة مثلما نجد عند محمد البكري في «أحوال المحارب القديم» و»أهل البلاد الشاهقة»، ومنصور الصويم في «آخر السلاطين»، وحمور زيادة في «شوق الدرويش».
from صحيفة سبورت السعودية https://ift.tt/2vQ17eO
تعليقات
إرسال تعليق